طبول الحرب غير الضرورية
بقلم / سامح المحاريق*
العالم يحتاج إلى حرب كبيرة، فمنذ بدأت الأزمة المالية العالمية، قبل عقد من الزمن، والحديث عن حرب يمكن أن تعيد تنشيط الاقتصاد العالمي، كما هو الأمر مع الحرب العالمية الثانية، التي لا يمكن فصلها عن مقدمات اقتصادية واضحة، مثل الكساد الكبير في أمريكا والتضخم الجامح في ألمانيا.
ولكن تراجع فكرة القومية وعدم قدرة اليمين الصريح على التفرد بالسلطة، أمر يجعل من الحرب قراراً أكثر صعوبة وحساسية لدى الدول الكبرى، يضاف إلى ذلك تغير خريطة وتركيبة العلاقات الدولية، بعد ثلاثة عقود من العولمة، وتداخل المصالح، وتعقد الحسابات، وتصاعد دور الشركات العابرة للقوميات، ومع ذلك فلا تمانع الدول الكبرى من الحروب على أرض الآخرين، حروباً غير ذات تكلفة بشرية باهظة بالنسبة لها، ولا تهدد شعوبها ومدنها وبنيتها التحتية، كما تتيح لها صفقات ضخمة من أجل إعادة الإعمار، وعلى ذلك فلماذا لا تتوسع حرب سوريا على امتداد منطقة أوسع، خاصة أنها أسفرت عن مزيد من الانفاق العسكري، وتركت وراءها حديثاً عن مشروع إعادة إعمار واسع جداً من شأنه أن يرهق سوريا، المثقلة أصلاً بمشاكلها، في التزامات مالية خرافية يستفيد منها الجميع باستثناء السوريين؟
توجد مشاكل جوهرية بين دول الخليج وإيران، مشكلة ذات خلفيات عرقية وثقافية في الأساس، ومع ذلك فإن الأمر لم يمنع مثلاً من وجود تحالفات بين الخليج وإيران ضد مصر عبد الناصر في الخمسينيات والستينيات، حيث دفعت طبيعة أنظمة الحكم المتحفظة والرجعية، كما وصفها عبد الناصر، إلى وجود تحالف ضد المشروع التقدمي كما ادعته القاهرة، كما أن إيران ودول الخليج وقفت في خندق واحد في الحرب على الشيوعية، وكان شاه ايران منشغلاً بتحقيق تواجد ولو شكلي أو رمزي في آسيا الوسطى لمجرد مضايقة السوفييت.
الحرب على الشيوعية طرحت بقوة الهوية الدينية للسعودية ودول الخليج العربي، لتنتج فئات واسعة من المتشددين الذين وجدوا الفرصة لإعلان مشروعهم التطهري في أفغانستان، وفي الوقت نفسه صعدت الثورة الايرانية التي استندت في شرعيتها إلى إنتاج المذهب الشيعي، من أجل تماسك الثورة في ايران، التي عاشت لعقود قبل الثورة في انفتاح أوروبي الطابع كان من الضروري أن يحضر العدو بشكل دائم من أجل أن المحافظة على الايرانيين، بجانب بعضهم بعضا والحيلولة دون الوقوف في مواجهة داخلية تفجر تناقضات النظام وتشتته بين الحداثة وغياهب ثأر تاريخي يمتد من دون نهاية، ويأخذ نزعة انتظار نهاية العالم للتمهيد لمجيء المخلص، الذي هو في الحالة الايرانية المهدي المنتظر.
دولتان كبيرتان في الحجم وفي الموارد، وكلتاهما تقوم على شرعية دينية تبشيرية ودعوية، ولذلك يجب دائماً عليها أن يتم تصدير الفائض المتعصب والباحث عن الجنة المتخيلة على الأرض، أو الوصول إلى جنة السماء من طريق مختصرة، هاتان الدولتان وضعتا في مواجهة مباشرة حول مسطح مائي ثري بالنفط، فأي وصفة أكثر اغراء لحرب كبيرة يحتاجها العالم اليوم، مع أن التاريخ يثبت أن الحرب ليست ضرورية، وأنه يمكن البحث أصلاً عن أفق لتعاون دول المنطقة في مواجهة مخاطر أخرى تأتي من الخارج.
عملياً يمكن لإيران والجارات في الخليج الهروب من الحرب، خطوات جريئة فقط يحتاجها البلدان للقفز فوق الفخ الذي تغطيه الإغراءات الدولية، خاصة الأمريكية، بتقديم الدعم المفتوح، بينما يقدم بوتين إيماءات مريحة بالنسبة للايرانيين، فالحرب في الخليج أقل تكلفة بالنسبة للأمريكيين والروس من الحرب في أوكرانيا، أو جورجيا، والحرب بالوكالة ستؤدي غرض الحرب المباشرة نفسه، ولكن من دون أن تشكل مساساً بالدول الكبرى، التي تمتلك صبراً مثالياً وضبطاً متكاملاً للنفس مع كوريا الشمالية.
المشكلة في اليمن بدأت في طهران في جزء منها، ولكن أيضاً لا يمكن تناسي الدور السعودي الذي كان متسامحاً ومتساهلاً للغاية مع علي عبد الله صالح، الذي استطاع أن ينقلب على الجميع، وربما كانت عودته من الرياض بعد تلقيه العلاج من حادثة الحرق الشهيرة بداية أزمة اليمن الراهنة، فالدعم الايراني للحوثيين لم يكن جديداً، كما أنه لم يكن كبيراً أو واسعاً، وأتى من مجرد المحافظة على مكان في هذه المنطقة، ولكن الفرصة التي قدمها صالح واغراءه بتقدم الحوثيين لالتهام اليمن، فجّرت الصراع الشرس المستمر إلى اليوم، وبذلك استطاع صالح أن يعيد إنتاج طموحاته ومشروع أسرته في اليمن على حساب الجميع.
مع الاستغلاق في اليمن، يوجد بصيص من الضوء في العراق، يجب أن يتم الالتفات له بصورة عاجلة، خاصة بعد الدفعة المعنوية التي تحصلت عليها حكومته بعد إجهاضها الانفصال الكردي، فالعراق كان يشكل رمانة الميزان في العلاقة بين ايران ودول الخليج، وكان نتيجة تركيبته المذهبية والسكانية يمتص صدمات الصراع ويستوعبها، وبالطبع يحقق مكتسبات من وراء ذلك، والانفتاح السعودي ـ العراقي من جهة، مع طبيعة التواجد الايراني في العراق، أمور تجعل بغداد حاجة ضرورية في حالة توفرت لديها فرصة التحرك، والتمكن من الوساطة أو الدخول في تسوية معقولة بين ايران ودول الخليج، مع إعطاء الفرصة للعراقيين للتحرك إيجابياً وتجنيبهم الإرهاق نتيجة متابعة المواقف المتناقضة في الرياض وطهران.
طبول الحرب بدأت تدق في المنطقة، وترامب وبوتين ينظران للوضع كفرصة ذهبية يمكن أن تعطيهم الحرب التي يحتاجونها، وتوجد فرصة لإعادة ترتيب المشهد في حالة وجود خطوات جريئة، خاصة أن الدول المطلة على المشهد مباشرة تفضل أن تحتفظ بمسافة من أجل المناورة، فتركيا ومصر لم تدخلا في الأسبوع الماضي على وتيرة التصعيد، وحديث الرئيس السيسي عن الخط الأحمر في الخليج هو تصريح سياسي، أكثر مما يمثل التزاماً حقيقياً قابلا للصرف بصورة فورية، فالمصريون في حالة تدهور الموقف سيضطرون لأن يوسعوا دورهم الدبلوماسي، وأخذ المبادرة من الرياض تجاه البحث عن صفقة توازن بين التزامهم بأمن الخليج ومصالحهم على المدى البعيد، والأمر كذلك بالنسبة لتركيا التي تعيش أزمات متتابعة ولا تجد نفسها بحاجة لحرب في المنطقة، تحول دون قدرتها المحافظة على استقرارها الداخلي وتحرجها بضرورة التدخل بوصفها دولة وازنة في الإقليم.
سيرحل ترامب يوماً، وغالباً بعد فترة رئاسية واحدة، ولذلك فهذه الحرب غير ضرورية، وليست في موقعها المناسب، فهي الحرب التي يريدها الأمريكيون لأنها ستوفر عليهم دخولهم في حروب أخرى لا يستطيعون تحمل تكلفتها في هذه المرحلة، كما أن هذه الحرب لا يمكن أن تنهي الصراع فلا طريق لأن تعتبر حرباً حاسمة تستحق المغامرة من الأساس، فالعرب والايرانيون واقع في المنطقة لم يتبدل، على الرغم من التبدلات الواسعة على مشهد القوى العالمية من زمن التوسع البرتغالي والهولندي، وبعده زمن المنازلة الطويلة بين فرنسا وبريطانيا، وسيبقى الشعبان في هذه العلاقة الصعبة من الجوار إلى الأبد، وعليهما أن يعرفا حدود اللعبة.
*كاتب أردني
المصدر: القدس العربي
لا تعليقات في " طبول الحرب غير الضرورية "